أسباب الخشوع:
إذاً فلابد من أسباب لحصول الخشوع، ولا ريب أن هناك خللاً ونقصاً في أدائنا للصلاة، ولعلنا في هذه العجالة نستعرض بعض الأسباب المعينة - بإذن الله - على الخشوع في الصلاة وهي:
1- الإيمان الصادق والاعتقاد الجازم بما يترتب على الخشوع من فضل عظيم في الدنيا والآخرة، من الإحساس بالسكون والطمأنينة وراحة لا مثيل لها، وطيب نفس يفوق الوصف. قال تعالى:
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، وروى مسلم عن عثمان بن عفان
قال: سمعت رسول الله
يقول:
{ ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله } والآيات والأحاديث الدالة على فضل الخشوع كثيرة.
2- الإكثار من قراءة القرآن والذكر والاستغفار وعدم الإكثار من الكلام بغير ذكر الله، كما في الحديث:
{ لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب! وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي } [رواه الترمذي] فقراءة القرآن وتدبره من أعظم أسباب لين القلب قال تعالى:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] فالقراءة والذكر حصن من الشيطان ووساوسه، وهي سبب لأطمئنان القلوب الذي يفقده الكثير من الناس، قال تعالى:
الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] كما أن الإكثار من ذكر الله عز وجل سبب للفلاح، قال تعالى:
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] وليس المقام لبيان فضل الذكر، ولكن أردنا التنويه إلى أنه سبب من أسباب الخشوع، ومن يريد معرفة ذلك – فضل الذكر - فعليه الرجوع إلى كتاب الله والأذكار التي تثبت عن النبي
.
ومع هذا أيضاً الحرص على مجاهدة الشيطان، وذلك بأن يعقد العزم على مجاهدته من قبل القيام إلى الصلاة، وإن دخل عليه في أول صلاته فلا يستسلم له في وسطها أو آخرها، بل ينبغي أن يجاهد الشيطان حتى اللحظة الأخيرة من الصلاة، فالشيطان يسعى إلى تشتيت الذهن حتى لا يعقل المصلي شيئاً من صلاته، روى مسلم عن عثمان بن أبي العاص
أنه قال:
{ يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله : "ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً"، ويقول راوي الحديث: ففعلت ذلك فأذهبه الله عز وجل عني }.
إذاً فينبغي أن يستمر المصلي في المجاهدة ولا ينقطع بأن يشمر عن ساعد الجد، فإذا لم يخشع في هذه الصلاة فليعقد العزم على الخشوع في الأخرى، وإن قل خشوعه في هذه فليحرص على كمال الخشوع في التي تليها، وهكذا ولا يتضجر من طول المجاهدة، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينه على ذلك.
3- دوام محاسبة النفس ولومها على ما لاينبغي من الاعتقاد والقول والفعل، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
يقول: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر).
وأيضاً البعد عن المعاصي بصرف النظر عما يحرم النظر إليه، وكذا حفظ اللسان والسمع وسائر الجوارح وإشغالها بما يخصها من عبودية، وصرفها بالنظر في كتاب الله وسنة رسوله والكتب العلمية المفيدة، وما يباح النظر إليه، والتفكير في مخلوقاته سبحانه وتعالى، والاستماع إلى الطيب من القول، والتحدث في المفيد، فلاشك أن الذنوب تقيد المرء وتحجزه عن أداء العبادات على الوجه المطلوب، فكل إنسان يعرف ما هو واقع فيه من الذنوب وعليه أن يسعى في إصلاح حاله، والإصلاح متعلق بمحاسبة النفس، حيث إن المرء إذا حاسب نفسه بحث عما يصلحها.
4- تدبر وتفهم ما يقال في الصلاة وعدم صرف النظر فيما سوى موضع السجود مستشعراً بذلك رهبة الموقف، يقول الإمام ابن القيم في الفوائد: (للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف)، قال تعالى:
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً، إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:26-27].
فلابد من إعطاء هذا الموقف حقه من خضوع وخشوع وانكسار إجلالاً لله عز وجل، واستشعاراً بأن هذه الصلاة هي الصلاة الأخيرة في الدنيا، فلو استقر هذا الشعور في نفس المصلي لصلى صلاة خاشعة. روى الإمام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي
فقال:
{ يا رسول الله عظني وأوجز، فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعذر منه غداً، واجمع اليأس مما في أيدي الناس" }.